فصل: المسخ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.وهو اتحاد الطريق واختلاف المقصد:

فمما جاء منه قول النابغة:
إذا ما غزا بالجيش حلق فوقه ** عصائب طير تهتدي بعصائب

جوانح قد أيقن أن قبيله ** إذا ما التقى الجمعان أول غالب

وهذا المعنى قد توارد عليه الشعراء قديما وحديثا، وأوردوه بضروب من العبارات، فقال أبو نواس:
تتمنى الطير غزوته ** ثقة باللحم من جزره

وقال مسلم بن الوليد:
قد عود الطير عادات وثقن بها ** فهن يتبعنه في كل مرتحل

وقال أبو تمام:
وقد ظللت أعناق أعلامه ضحى ** بعقبان طير في الدماء نواهل

أقامت مع الرايات حتى كأنها ** من الجيش إلا أنها لم تقاتل

وقد ذكر في هذا المعنى غير هؤلاء، إلا أنهم جاءوا بشيء واحد لا تفاضل بينهم فيه إلا من جهة حسن السبك، أو من جهة الإيجاز في اللفظ، ولم أر أحدا أغرب في هذا المعنى فسلك هذه الطريق مع اختلاف مقصده إليها إلا مسلم بن الوليد، فقال:
أشربت أرواح العدا وقلوبها ** خوفاً فأنفسها إليك تطير

لو حاكمتك فطالبتك بذحلها ** شهدت عليك ثعالب ونسور

فهذا من المليح البديع الذي فضل به مسلم غيره في هذا المعنى، وكذلك فعل أبو الطيب المتنبي، فإنه لما انتهى الأمر إليه سلك هذه الطريق التي سلكها من تقدمه، إلا أنه خرج فيها إلى غير المقصد الذي قصدوه، فأغرب وأبدع وحاز الإحسان بجملته، وصار كأنه مبتدع لهذا المعنى دون غيره فمما جاء من قوله:
يفدي أتم الطير عمراً سلاحه ** نسور الملا أحداثها والقشاعم

وما ضرها خلق بغير مخالب ** وقد خلقت أسيافه والقوائم

ثم أورد هذا المعنى في موضع آخر من شعره، فقال:
سحاب من العقبان ترجف تحتها ** سحاب إذا استسقت سقتها صوارمه

وهذا معنى قد حوى طرفي الإغراب والإعجاب وقال في موضع آخر:
وذي لجب لا ذو الجناح أمامه ** بناج ولا الوحش المثار بسالم

تمر عليه الشمس وهي ضعيفة ** تطالعه من بين ريش القشاعم

إذا ضوؤها لاقى من الطير فرجة ** تدور فوق البيض مثل الدراهم

وهذا من إعجاز أبي الطيب المشهور، ولو لم يكن له من الإحسان في شعره إلا هذه الأبيات لاستحق بها فضيلة التقدم.
ومما ينتظم بهذا النوع ما توارد عليه أبو عبادة البحتري وأبو الطيب المتنبي في وصف الأسد، وقصيدتاهما مشهورتان، فأول إحداهما:
أجدك ما ينفك يسري لزينبا

وأول الأخرى:
في الخد إن عزم الخليط رحيلا

أما البحتري فإنه ألم بطرف مما ذكر بشر بن عوانة في أبياته الرائية التي أولها:
أفاطم لو شهدت ببطن خبت ** وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا

وهذه الأبيات من النمط العالي الذي لم يأت أحد بمثلها، وكل الشعراء لم تسم قرائحهم إلى استخراج معنى ليس بمذكور فيها، ولولا خوف الإطالة لأوردتها بجملتها، لكن الغرض إنما هو المفاضلة بين البحتري وأبي الطيب فيما أورداه من المعاني في هذا المقصد المشار إليه.
فمما جاء للبحتري من قصيدته:
وما تنقم الحساد إلا أصالة ** لديك وعزما أريحيا مهذبا

وقد جربوا بالأمس منك عزيمة ** فضلت بها السيف الحسام المجربا

غداة لقيت الليث والليث مخدر ** يحدد نابا للقاء ومخلبا

إذا شاء غادى عانة أو عدا على ** عقائل سرب أو تقنص ربربا

شهدت لقد أنصفته حين تنبري ** له مصلتا عضبا من البيض مقضبا

فلم أر ضرغامين أصدق منكما ** عراكا إدا الهيابة النكس كذبا

هزبرا مشى يبغي هزبرا وأغلبا ** من القوم يغشى باسل الوجه أغلبا

أدل بشغب ثم هالته صولة ** راك لها أمضى جنانا وأشغبا

فأحجم لما لم يجد فيك مطمعا ** وأقدم لما لم يجد عنك مهربا

فلم يثنه أن كر نحوك مقبلا ** ولم ينجه أن حاد عنك منكبا

حملت عليه السيف لا عزمك انثنى ** ولا يدك ارتدت ولا حده نبا

ومما جاء لأبي الطب المتنبي في قصيدته:
أمعفر الليث الهزبر بسوطه ** لمن ادخرت الصارم المقصولا

ورد إذا ورد البحيرة شاربا ** ورد الفرات زئيره والنيلا

متخضب بدم الفوارس لابس ** في غيله من لبدتيه غيلا

ما قوبلت عيناه إلا ظنتا ** تحت الدجى نار الفريق حلولا

في وحدة الرهبان إلا أنه ** لايعرف التحريم والتحليلا

يطأ البرى مترفقا من تيهه ** فكأنه آس يجس عليلا

ويرد غفرته إلى يافوخه ** حتى تصير لرأسه إكليلا

قصرت مخافته الخطا فكأنما ** ركب الكمي جواده مشكولا

ألقى فريسته وزمجر دونها ** وقربت قربا خاله تطفيلا

فتشابه القربان في إقدامه ** وتخالفا في بذلك المأكولا

أسد يرى عضويه فيك كليهما ** متنا أزال وساعدا مفتولا

ما زال يجمع نفسه في زوره ** حتى حسبت العرض منه الطولا

وكأنما غرته عين فادنى ** لا يبصر الخطب الجليل جليلا

أنف الكريم من الدنية تارك ** من عينه العدد الكثير قليلا

والعلر مضاض وليس بخائف ** من حتفه من خاف مما قيلا

خذلته قوته وقد كافحته ** فاستنصر التسليم والتجديلا

سمع ابن عمته به وبحاله ** فمضى يهرول أمس منك مهولا

وأمر مما فر منه فراره ** وكقتله ألا يموت قتيلا

تلف الذي اتخذ الجراءة خلة ** وعظ الذي اتخذ الفرار خليلا

وسأحكم بين هاتين القصيدتين، والذي يشهد به الحق وتتقيه العصبية أذكره، وهو أن معاني أبي الطيب أكثر عددا، وأسد مقصدا، ألا ترى أن البحتري قد قصر مجموع قصيدته على وصف شجاعة الممدوح: في تشبيهه بالأسد مرة، وتفضيله عليه أخرى، ولم يأت بشيء سوى ذلك، وأما أبو الطيب فإنه أتى بذلك في بيت واحد، وهو قوله:
أمعفر الليث الهزبر بسوطه ** لمن ادخرت الصارم المصقولا

ثم إنه تفنن في ذكر الأسد، فوصف صورته وهيئته، ووصف أحواله في انفراده في جنسه وفي هيئه مشيه واختياله، ووصف خلق نجله مع شجاعته، وشبه الممدوح به في الشجاعة، وفضله عليه بالسخاء، ثم إنه عطف بعد ذلك على ذكر الأنفة والحمية التي نعثت الأسد على قتل نفسه بلقاء الممدوح، وأخرج ذلك في أحسن مخرج، وأبرزه في أشرف معنى، وإذا تأمل العارف بهذه الصناعة أبيات الرجلين عرف ببديهة النظر ما أشرت إليه، والبحتري وإن كان أفضل من المتنبي في صوغ الألفظ وطلاوة السبك فالمتنبي أفضل منه في الغوص على المعاني، ومما يدلك على ذلك أنه لم يعرض لما ذكره في أبياته الرائية لعلمه أن بشرا قد ملك رقاب تلك المعاني واستحوذ عليها، ولم يترل لغيره شيئا يقوله فيها، ولفطانة أبي الطيب لم يقع فيما وقع فيه البحتري من النسحاب على ذيل بشر، لأنه قصر عنه تقصيرا كثيرا، ولما كان الأمر كذلك عدل أبو الطيب عن سلوك الطريق وسلك غيرها، فجاء فيما أورد مبرزا.
واعلم أن من أبين البيان في المفاضلة بين أرباب النظم والنثر أن يتوارد اثنان منهما على مقصد من المقاصد يشتمل على عدة معان، كتوارد البحتري والمتنبي هاهنا على وصف الأسد، وهذا أبين في المفاضلة من التوارد على معنى واحد يصوغه هذا في بيت من الشعر وفي بيتين ويصوغه الآخر في مثل ذلك، فإن بعد المدى يظهر ما في السوابق من الجواهر، وعنده يتبين ربح الرابح وخسر الخاسر.
فإذا شئت أن تعلم فضل ما بين هذين الرجلين فانظر إلى قصيدتهما في مراثي النساء التي مفتتح إحداهما:
يا أخت خير أخ يا بنت خير أب ** كناية عن أكرم العرب

وهي لأبي الطيب ومفتتح الأخرى:
عروب دمع من الأجفان ينهمل ** وحرقة بغليل الحزن تشتعل

وهي للبحتري، فإن أبا الطيب انفرد بابتداع ما أتى به من معاني قصيدته، والبحتري أتى بما أكثره غث بارد، والمتوسط منه لا فرق فيه بين رثاء امرأة أو رجل ومن الواجب أنه إذا سلك الناظم أو الناثر مسلكا في غرض من الأغراض ألا يخرج عنه، كالذي سلكه هذان الرجلان في الرثاء بامرأة، فإن من حذاقة الصنعة أن يذكر ما يليق بالمرأة دون الرجل، وهذا الموضع لم يأت فيه أحد بما يثبت على المحك إلا أبو الطيب وحده، وأما غيره من مفلقي الشعراء قديما وحديثا فإنهم قصروا عنه.
وله في هذا المعنة قصيدة أخرى مفتتحها:
نعد المشرفية والعوالي ** وتقلتنا المنون بلا قتال

وكفى بهما شاهدا على ما ذكرته من انفراده بالإبداع فيما أتى به، والفتيا عندي بينه وبين البحتري أن أبا الطيب أنفذ في المضيق، وأعرف باستخراج المعنى الدقيق، وأما البحتري فإنه أعرف بصوغ الألفاظ، وحوك ديباجتها، وقد قدمت أن الحكم بني الشاعرين في اتفاقهما في المعنى أبين من الحكم بينهما فيما اختلفا فيه، لأنهما مع الاتفاق في المعنى يتبين قولاهما، ويظهران ظهورا يعلم ببديهة النظر ويتسارع إليه فهم من ليس بثاقب الفهم، وأما اختلافها في المعنى فإنه يحتاج في الحكم بينهما فيه إلى كلام طويل يعز فهمه، ولا يتفطن له إلا مقالة مفردة ضمنتها الحكم بين المعنين المختلفين، وتكلمت عليه كلاما طويلا عريضا، وأقمت الدليل على ما نصصت عليه، وما منعني من إيرادها في كتابي هذا إلا أنها سنحت لي بعد تصنيفه وشياعه في أيدي الناس، وتناقل النسخ به.
وعلى هذا الأسلوب توارد البحتري والشريف الرضي على ذكر الذئب في قصيدة للبحتري دالية أولها:
سلام عليكم لا وفاء ولا عهد

ومقطوعة للشريف الرضي أولها:
وعاري الشوى والمنكبين من الطوى ** أتيح له بالليل عاري الأشاجع

وقد أجاد البحتري في وصف حاله مع الذئب، والشريف أجاد في وصف الذئب نفسه.

.المسخ:

وأما المسخ فهو: قلب الصورة الحسنة إلى صورة قبيحة.
والقسمة تقتضي أن يقرن إليه صده، وهو قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة.
فالأول كقول أبي تمام:
فتى لا يرى أن الفريصة مقتل ** ولكن يرى أن العيوب مقاتل

وقول أبي الطيب المتنبي:
يرى أن ما بان منك لضارب ** بأقتل مما بان منك لعائب

فهو وإن لم يشوه المعنى فقد شوه الصورة، ومثاله في ذلك كمن أودع الوشي شملا، وأعطى الورد جعلا، وهذا من أرذل السرقات، وعلى نحو منه جاء قول عبد السلام بن رغبان:
نحن نعزيك ومنك الهدى ** مستخرج والصبر مستقبل

نقول بالعقل وأنت الذي ** نأوي إليه وبه نعقل

إذا عفا عنك وأودى بنا ** الدهر فذاك المحسن المجمل

أخذه أبو الطيب فقلب أعلاه أسفله، فقال:
إن يكن صبر ذي الرزية فضلا ** فكن الأفضل الأعز الأجلا

أنت يا فوق أن تعزى عن الأح ** باب فوق الذي يعزيك عقلا

وبألفاظك اهتدى فإذا عز ** اك قال الذي له قلت قبلا

والبيت الأخير من هذه الأبيات هو الآخر قدرا، وهو المخصوص بالمسخ.
وأما قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة فهذا لا يسمى سرقة، بل يسمى إصلاحا وتهذيبا.
فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي:
لو كان ما تعطيهم من قبل أن ** تعطيهم لم يعرفوا التأميلا

وقول ابن نباتة السعدي:
لم يبق جودك لي شيئا أؤمله ** تركتني أصحب الدنيا بلا أمل

وعلى هذا النحو ورد قول أبي نواس في أرجوزة يصف فيها اللعب بالكرة والصولجان فقال من جملتها:
جن على جن وإن كانوا بشر ** كأنما خيطوا عليها بالإبر

ثم جاء المتنبي فقال:
فكأنها نتجت قياما تحتهم ** وكأنهم ولدوا على صهواتها

وبين القولين كما بين السماء والأرض، فإنه يقال: ليس للأرض إلى السماء نسبة محسوسة، وكذلك يقال هاهنا أيضا، فإن بقدر ما في قول أبي نواس من النزول والضعف، فكذلك في قول أبي الطيب من العلو والقوة.
وربما ظن بعض الجهال أن قول الشماخ:
إذا بلغتني وحملت رحلي ** عرابة فاشرقي بدم الوتين

وقول أبي نواس:
وإذا المطي بنا بلغن محمدا ** فظهورهن على الرجال حرام

من هذا القبيل الذي هو قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة، وليس كذلك فإن قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة هو أن يؤخذ المعنى الواحد فيكسى عبارتين إحداهما قبيحة والأخرى حسنة، فالحسن والقبح إنما يرجع إلى التعبير، لا إلى المعنى نفسه، وقول أبي نواس هو عكس قول الشماخ، وقد تقدم مثل ذلك فيما مضى من ضروب السرقات، ألا ترى إلى قول أبي الطيب المتنبي وقول الشريف الرضي، فقال أبو الطيب:
إني على شغفي بما في خمرها ** لأعف عما في سراويلاتها

وقول الشريف الرضي:
أحن إلي ما تضمن الخمر والحلى ** وأصدف عما في ضمان المآزر

فالمعنى واحد، والعبارة مختلفة في الحسن والقبح.
وهذه السرقات وهي ستة عشر نوعا لا يكاد يخرج عنها شيء، وإذا أنصف الناظر في الذي أتيت به هاهنا علم أني قد ذكرت ما لم يذكره غيري، وأنا أسأل الله التوفيق لأن أكون لفضله شكورا، وألا أكون مختالا فخورا.
وإذ فرغت من تصنيفي هذا الكتاب وحررت القول في تفصيل أقسام الفصاحة والبلاغة والكشف عن دقائقهما وحقائقهما، فينبغي أن أختمه بذكر فضليهما فأقول:
اعلم أن هذا الفن هو أشرف الفضائل وأعلاها درجة ولولا ذلك لما فخر به رسول الله في عدة مواقف، فقال تارة: «أنا أفصح من نطق بالضاد» وقال تارة: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث في قومه بعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طيبة وطهورا، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأوتيت جوامع الكلم» وما سمع بأن رسول الله افتخر بشيء من العلوم سوى علم الفصاحة والبلاغة، فلم يقل إنه أفقه الناس، ولا أعلم الناس بالحساب، ولا بالطب ولا بغير ذلك، كما قال: «أنا أفصح من نطق بالضاد» وأيضا فلو لم تكن هذه الفضيلة من أعلى الفضائل درجة لما اتصل الإعجاز بها دون غيرها، فإن كتاب الله تعالى نزل عليها، ولم ينزل بمعجز من مسائل الفقه، ولا من مسائل الحساب، ولا من مسائل الطب، ولا غير ذلك من العلوم.
ولما كانت هذه الفضيلة بهذه المكانة صارت في الدرجة العالية، والمنثور منها أشرف من المنظوم، لأسباب من جملتها أن الإعجاز لم يتصل بالمنظوم، وإنما اتصل بالمنثور، الآخر أن أسباب النظم أكثر، ولهذا نجد المجيدين منهم أكثر من المجيدين من الكتاب، بل لا نسبة لهؤلاء إلى هؤلاء، ولو شئت أن تحصي أرباب الكتابة من أول الدولة الإسلامية إلى الآن لما وجدت منهم ممن يستحق اسم الكاتب عشرة، وإذا أحصيت الشعراء في تلك المدة وجدتهم عددا كثيرا، حتى لقد كان يجتمع منهم في العصر الواحد جماعة كثيرة كل منهم شاعر مفلق، وهذا لا نجده في الكتاب، بل ربما ندر الفرد الواحد في الزمن الطويل، وليس ذلك إلا لوعورة المسلك من النثر، وبعد مناله، والكاتب هو أحد دعامتي الدولة، فإن كل دولة لا تقوم إلا على دعا متين من السيف والقلم، وربما لا يفتقر إليه على الأيام، وكثيرا ما يستغني به عن السيف، وإذا سئل عن الملوك الذين غبرت أيامهم لا يوجد منهم من حسن اسمه من بعده، إلا من حظي بكاتب خطب عنه، وفخم أمر دولته، وجعل ذكرها خالدا يتناقله الناس، رغبة في فصل خطابه، واستحسانا لبداعة كلامه، فيكون ذكرها في خفارة ما دونه قلمه، ورقمته أساطيره، وليس الكاتب بكاتب حتى يضطر عدو الدولة أن يروي أخبار مناقبها في حفله، ويصبح ولسانه لمساعيها وبقلبه ما به من غله، ولقد أحسن أبو تمام في هذا المعنى حيث قال:
سأجهد حتى أبلغ الشعر شأوه ** وإن كان طوعا لي ولست بجاهد

فإن أنا لم يحمدك عني صاغرا ** عدوك فاعلم أنني غير حامد

وهذا الذي ذكرته حق وصدق، لاينكره إلا جاهل به، وأنا أسأل الله الزيادة من فضله، وإن لم أكن أهلا له فإنه هو من أهله.
ووقف على كلام لأبي إسحق الصابي في الفرق بين الكتابة والشعر، وهو جواب لسائل سأله، فقال: إن طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه، لأن الترسل هو ما وضح معناه، وأعطاك سماعه في أول وهلة ما تضمنته ألفاظه، وأفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه.
ثم قال بعد ذلك: ولسائل أن يسأل فيقول: من أية جهة صار الأحسن في معنى الشعر الغموض، وفي معاني الترسل الوضوح، فالجواب أن الشعر بني على حدود مقررة وأوزان مقدرة وفصلت أبياته، فكان كل بيت منها قائما بذاته، وغير محتاج إلى غيره، إلا ما جاء على وجه التضمين، وهو عيب، فلما كان النفس لا يمتد في البيت الواحد بأكثر من مقدار عروضه وضربه، وكلاهما قليل، احتيج إلى أن يكون الفصل في المعنى، فاعتمد أن يلطف ويدق، والترسل مبني على مخالفة هذه الطريق، إذ كان كلاما واحدا لا يتجزأ ولا يتفصل إلا فصولا طوالا، وهو موضوع وضع ما يهذهذ أو يمر به على أسماع شتى من خاصة ورعية، وذوي أفهام ذكية وأفهام غبية، فإذا كان متسلسلا ساغ فيها وقرب، فجميع ما يستحب في الأول يكره في الثاني، حتى إن التضمين عيب في الشعر وهو فضيلة في الترسل.
ثم قال بعد ذلك: والفرق بين المترسلين والشعراء أن الشعراء إنما أغراضهم التي يرمون إليها وصف الديار والآثار والحنين إلى الأهواء والأوطار، والتشيب بالنساء، والطلب والاجتداء، والمديح والهجاء، وأما المترسلون فإنما يترسلون في أمر سداد ثغر، وإصلاح فساد، أو تحريض على جهاد، أو احتجاج على فئة، أو مجادلة لمسألة، أو دعاء إلى ألفة، أو نهي عن فرقة، أو تهنئة بعطية، أو تعزية برزية، أو ما شاكل ذلك.
هذا ما انتهى إليه كلام أبي إسحاق في الفرق بين الترسل والشعر.
ولقد عجبت من ذلك الرجل الموصوف بذلاقة اللسان، وبلاغة البيان، كيف يصدر عنه مثل هذا القول الناكب عن الصواب الذي هو في باب ونصى النظر في باب؟ الله غفرا، وسأذكر ما عندي في ذلك، لا إرادة للطعن عليه، بل تحقيقا لمحل النزاع فأقول: أما قوله إن الترسل هو ما وضح معناه والشعر ما غمض معناه، فإن هذه دعوى لا مستند لها، بل الأحسن في الأمرين معا إنما هو الوضوح والبيان، على أن إطلاق القول على هذا الوجه من غير تقييد لا يدل على الغرض الصحيح، بل صواب القول في هذا أن يقال: كل كلام من منثور ومنظوم فينبغي أن تكون مفردات ألفاظه مفهومة، لأنها إن لم تكن مفهومة فلا تكون صحيحة لكن إذا صارت مركبة نقلها التركيب عن تلك الحال في فهم معانيها، فمن المركب منها ما يفهمه الخاصة والعامة، ومنه ما لا يفهمه إلا الخاصة، وتتفاوت درجات فهمه، ويكفي من ذلك كتاب الله تعالى، وتتفاوت درجات فهمه ويكفي من ذلك كتاب الله تعالى، فإنه أفصح الكلام، وقد خوطب به الناس كافة من خاص وعام، ومع هذا فمنه ما يتسارع الفهم إلى معانيه، ومنه يغمض فيعز فهمه، والألفاظ المفردة ينبغي أن تكون مفهومة، سواء كان الكلام نظما أو نثرا، وإذا تركبت فلا يلزم فيها ذلك، وقد تقدم في كتابي هذا أدلة كثيرة على هذا، فتؤخذ من مواضعها.
وأما الجواب الذي أجاب به في الدلالة على غموض الشعر ووضوح الكلام المنثور فليس ذلك بجواب، وهب أن الشعر كان كل بيت منه قائما بذاته، فلم كان مع ذلك غامضا؟ وهب أن الكلام المنثور كان واحدا لا يتجزأ، فلم كان مع ذلك واضحا؟ ثم لو سلمت إليه هذا، فماذا يقول في الكلام المسجوع الذي كل فقرة منه بمنزلة بيت من شعر؟ وأما قوله في الفرق بين الشاعر والكاتب إن الشاعر من شأنه وصف الديار والآثار والحنين إلى الأهواء والأوطار والتشبيب بالنساء والطلب والاجتداء والمديح والهجاء، وإن الكاتب من شأنه الإفاضة في سداد ثغر أو إصلاح فساد أو تحريض على حياد أو احتجاج على فئة أو مجادلة لمسألة أو دعاء إلى ألفة أو نهي عن فرقة أو تهنئة بعطية أو تعزية برزية فإن هذا تحكم محض لا يستند إلى شبهة، فضلا عن بينة، وأي فرق بين الشاعر والكاتب في هذا المقام؟ فكما يصف الشاعر الديار والآثار، ويحن إلى الأهواء فكذلك الكاتب في الاشتياق إلى الأوطان، ومنازل الأحباب والإخوان، ويحن إلى الأهواء والأوطار، ولهذا كانت الكتب الإخوانيات بمنزلة الغزل والنسيب من الشعر وكما يكتب الكاتب في إصلاح فساد، أو سداد ثغر، أو دعاء إلى ألفة، أو نهي عن فرقة، أو تهنئة، أو تعزية، فكذلك الشاعر، فإن شذ عن الصابي قصائد الشعراء في أمثال هذه المعاني فكيف خفي عنه قصيدة أبي تمام في استعطاف مالك بن طوق على قومه التي مطلعها:
لو أن دهرا رد رجع جوابي

أم كيف بالنظر في ديوان أبي الطيب المتنبي وهما في زمن واحد، فما تأمل قصيدته في الإصلاح يبن كافور الإخشيدي وبين مولاه الذي مطلعها:
حسم الصلح ما اشتهته الأعادي

وكذلك لا شك أنه لم يقف على قصيدة أبي عبادة البحتري في غزو البحر التي مطلعها:
ألم تر تغليس الربيع المبكر

ولو أخذت في تعداد قصائد الشعراء في الأغراض التي أشار إليها وخص بها الكاتب لأطلت وذكرت الكثير الذي يحتاج إلى أوراق كثيرة، وكل هذه الفروق التي نص عليها وعددها فليست بشيء، ولا فرق بين الكناية والشعر فيها.
والذي عندي في الفرق بينهما هو من ثلاثة أوجه: الأول: من جهة نظم أحدهما ونثر الآخر وهذا فرق ظاهر.
الثاني: أن من الألفاظ ما يعاب استعماله نثرا، ولا يعاب نظما، وذلك شيء استخرجته ونبهت عليه في القسم الأول المختص باللفظة المفردة في المقالة الأولى من هذا الكتاب، وسأعيد هاهنا منه شيئا فأقول: قد ورد في شعر أبي تمام قوله:
هي العرمس الوجناء وابن ملمة ** وجأش على ما يحدث الدهر خافض

وكذلك ورد في شعر أبي الطيب المتنبي كقوله:
ومهمة جبته على قدمي ** تعجز عه العرامس الذلل

فلفظة المهمة والعرامس لا يعاب استعمالها في الشعر، ولو استعملا في كتاب أو خطبة كان استعمالها معيبا، وكذلك ما يشاكلهما ويناسبهام من الألفاظ، وكل ذلك قد ضبطته بضوابط وحددته بحدود تفصله من غيره من الألفاظ فليؤخذ من المقالة الأولى، ولولا خوف التكرار لأعدته هاهنا.
الثالث: أن الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورا متعددة ذوات معان مختلفة في شعره واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم بيت أو ثلثمائة أو أكثر من ذلك فإنه لا يجيد في الجميع، ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مرضي، والكاتب لا يؤتي من ذلك، بل يطيل الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس، أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة، وهو مجيد في ذلك كله، وهذا لا نزاع فيه لأننا رأيناه، وسمعناه وقلناه.
وعلى هذا فإني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النكتة المشار إليها، فإن شاعرهم يذكر كتابا مصنفا من أوله إلى آخره شعرا، وهو شرح قصص وأحوال، ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بشاه نامه، وهو ستون ألف بيت من الشعر، يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه، وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر.
اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه الطيبين الطاهرين، وسلم تسليما كثيراً إلى يوم الدين.